الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء (نسخة منقحة)
أجل والله، لقد أساء الدهر وأحسن، وأهزل وأسمن، وأحزن وسر، وعق وبر، إذ أصبح الملك وباغه بفقد الناصر قاصراً قد ضعفت أركانه، ومات سلطانه، فماله من قوة ولا ناصر، فأمسى بحمد الله وقد ملأ القصور بالمنصور سروراً، وأطاعه الدهر وأهله، فلا يسرف في القتل، إنه كان منصوراً.وفيها ورد إلى حلب زائراً صاحبنا التاج اليماني عبد الباقي بن عبد المجيد بن عبد الله النحوي اللغوي، الكاتب العروضي، الشاعر المنشئ، وجرت معه بحوث، منها مسألة نفسية، وهي: ما لو قال له: عندي اثنا عشر درهماً وسدساً، كم يلزمه؟ فاستبهمت هذه المسألة على الجماعة، فيسر الله لي حلها فقلت: يلزمه سبعة دراهم، إذ المعنى اثنا عشر دراهم وأسداساً، فيكون النصف دراهم؛ وهي ستة دراهم، والنصف أسداساً وهي ستة أسداس بدرهم، فهذه سبعة.ولو قال اثنا عشر درهما وربعاً لزمه سبعة ونصف.ولو قال اثنا عشر درهما وثلثاً، لزمه ثمانية، أو ونصفا فتسعة، وهكذا. ومما أنشدني لنفسه قوله: وفيها نقل طشتمر حمص أخضر، من نيابة صفد إلى نيابة حلب.وفيها في ذي الحجة، وصل إلى حلب الفيل والزرافة، جهزهما الملك الناصر قبل وفاته لصاحب ماردين.وفيها فتح علاء الدين أيدغدي الزراق، ومعه بعض عسكر حلب، قلعة خندروس، من الروم كانت عاصية وبها أرمن وتتر يقطعون الطرقات.وفيها صلي بحلب صلاة الغائب على الشيخ عز الدين عبد المؤمن بن قطب الدين عبد الرحمن ابن العجمي الحلبي، توفي بمصر، وكان عنده تزهد وكتب المنسوب.وفيها توفي بإياس نائبها الأمير علاء الدين مغلطاي الغزي، تقدمت له نكاية في الأرمن، ونقل إلى تربته بحلب.
وفيها في جمادى الآخرة، جهز قوصون مع الأمير قطلبغا الفخري الناصري عسكراً لحصار السلطان أحمد ابن الملك الناصر بالكرك، وسار الطنبغا نائب دمشق، والحاج أرقطاي نائب طرابلس، بإشارة قوصون، إلى قتال طشتمر بحلب، لكون طشتمر أنكر على قوصون ما اعتمده في حق أخيه المنصور أبي بكر، ونهب الطنبغا بحلب مال طشتمر، وهرب طشتمر إلى الروم، واجتمع بصاحب الروم أرتنا، ثم إن الفخري عاد عن الكرك إلى دمشق بعد محاصرة أحمد بها أياماً، وبعد أن استمال الناصر، أحمد الفخري، فبايعه، ولما وصل الفخري إلى دمشق، بايع للناصر من بقي من عسكر دمشق المتأخرين عن المضي إلى حلب، صحبة الطنبغا. هذا كله والطنبغا ومن معه بالمملكة الحلبية.ثم سار الفخري إلى ثنية العقاب، وأخذ من مخزن الأيتام بدمشق أربعمائة ألف درهم، وكان الطنبغا قد استدان منه مائتي ألف درهم، وهو الذي فتح هذا الباب، ولما بلغ الطنبغا ما جرى بدمشق، رجع على عقبه، فلما قرب من دمشق، أرسل الفخري إليه القضاة، وطلب الكف عن القتال في رجب، فقويت نفس الطبنغا وأبى ذلك، وطال الأمر على العسكر، فلما تقاربوا بعضهم من بعض، لحقت ميسرة الطنبغا بالفخري، ثم الميمنة، وبقي الطنبغا والحاج أرقطاي والمرقبي وابن الأبي بكري في قليل من العسكر، فهرب الطنبغا وهؤلاء إلى جهة مصر، فجهز الفخري وأعلم الناصر بالكرك.وخطب للناصر أحمد بدمشق وغزة والقدس، فلما وصل الطنبغا مصر، وهو قوي النفس بقوصون، قدر الله سبحانه تغير أمر قوصون، وكان قد غلب على الأمر لصغر الأشرف، فاتفق أيدغمش الناصري أمير أخور، ويلبغا الناصري وغيرهما، وقبضوا على قوصون، ونهبت دياره، واختطف الحرافيش وغيرهم من دياره، وخزائنه من الذهب والفضة والجواهر والزركش، والحشر والسروج والآلات ما لا يحصى، لأن قوصون كان قد انتقى عيون ذخائر بيت المال، واستغنى من دار قوصون خلق كثير، وقتل على ذلك خلق، وأرسلوا قوصون إلى الإسكندرية، وأهلك بها.وقبضوا على الطنبغا وحبسوه بمصر، ولما بلغ طشتمر بالروم ما جرى، رجع من الروم إلى دمشق، فتلقاه الفخري والقضاة، ثم رحل الفخري وطشتمر إلى مصر بمن معهما.وفيها في شهر رمضان، سافر الملك الناصر أحمد من الكرك، فوصل مصر، وعمل أعزية لوالده وأخيه، وأمر بتسمير والي قوص لقتله المنصور.وخلع الأشرف كجك الصغير، وجلس الناصر على الكرسي، هو والخليفة، وعقد بيعته قاضي القضاة تقي الدين السبكي، ثم أعدم الطنبغا والمرقبي.وفيها كسر حسن بن ممرتاش بن جوبان من التتر، طغاي بن سوتاي في الشرق، وتبعه إلى بلد قلعة الروم، فاستشعر الناس لذلك.وفيها عزل الملك الأفضل محمد ابن السلطان الملك المؤيد، صاحب حماة والمعرة وبارين وبلادهن، ونقل إلى دمشق من جملة أمرائها. تغيرت سيرة الأفضل وما كان فيه من التزهد قبل عزله، وحبس التاج ابن العز طاهر بن قرناص بين حائطين حتى مات، وقطع أشجار بستانه، وظهر في الليل من بعض أعقاب أشجار البستان التي لمعت نور، فما أفلح بعد ذلك.وتولى نيابة حماة بعده، مملوك أبيه سيف الدين طقزتمر.وفيها عزل عن قضاء الحنفية بحماة، القاضي جمال الدين عبد الله بن القاضي نجم الدين بن العديم، وتولى مكانه القاضي تقي الدين محمود بن الحكم.وفيها أهلك طاجار الدواتدار، وكان مسرفاً على نفسه.وفيها توفي الأفضل صاحب حماة بدمشق، معزولاً، ونقل إلى تربته بحماة، فخرج نائبها للقاء تابوته، وحزن عليه وحلف أنه ما تولى حماة إلا رجاء أن يردها إلى الأفضل، مكافأة لإحسان أبيه.وفيها في جمادى الأولى، توفي القاضي برهان الدين إبراهيم الرسعني، قاضي الشافعية بحلب، وكان متعففاً، ويعرف فرائض، رحمه الله تعالى.وفيها في جمادى الأولى أيضاً، عوقب لؤلؤ القندشى، بدار العدل بحلب حتى مات، واستصفى ماله، وشمت به الناس. قلت: وفيها توفي الأمير بدر الدين محمد بن الحاج أبي بكر، أحد الأمراء بحلب، كان من رجال الدنيا، وله مارستان بطرابلس، وارتفع به الدهر وانخفض، ودفن بتربة جامع أنشأه بحلب بباب أنطاكية.وفيها توفي الخطيب بدر الدين محمد ابن القاضي جلال الدين القزويني، خطيب دمشق، وتولى السبكي الخطابة، وجرى بينه وبين تاج الدين عبد الرحيم أخي الخطيب المتوفي وقائع، وفي آخر الأمر تعصبت الدماشقة مع تاج الدين، فاستمر خطيباً.وفيها في شهر رمضان، وصل القاضي علاء الدين علي بن عثمان الزرعي، المعروف بالقرع، إلى حلب، قاضي القضاة، ولاه الطاغية الفخري بالبذل، فاجتمع الناس وحملوا المصحف وتضرروا من ولاية مثله، فرفعت يده عن الحكم، فسافر أياماً ثم عاد بكتب، فما التفتوا إليها، فسافر إلى مصر، وحلب خالية عن قاضي شافعي.وفيها في شوال عم الشام ومصر جراد عظيم، وكان أذاه قليلاً.وفيها في ذي الحجة، وصل أيدغمش الناصري إلى حلب نائباً بها، في حشمه عظيمة، وأحسن وعدل وخلع على كثير من الناس، وأقام بحلب إلى صفر، ثم نقل إلى نيابة دمشق، وتأسف الحلبيون لانتقاله عنهم. قلت: ونقل طقزتمر من حماة إلى حلب، مكان أيدغمش، ودخلها في عشري صفر، وتولى نيابة حماة مكانه الأمير العالم علم الدين الجاولي، ثم نقل الجاولي إلى نيابة غزة، وولي نيابة حماة مكانه آل ملك، ثم بعده الطنبغا المارداني، كل هذا في مدة يسيرة، وجرى في هذه السنة من تقلبات الملوك والنواب، واضطرابهم، ما لم يجر في مئات السنين. قلت: وفيها في ذي الحجة، وصل إلى حلب القاضي حسام الدين الغوري، قاضي الحنفية بمصر، الوافد إليها من قضاء بغداد، منفياً من القاهرة، لما اعتمده في الأحكام، ولمعاضدته لقوصون، ولسوء سيرته، فإنه قاضي تتر. ولي بيتان في ذم حمام هما: فغيرهما بعض الناس فجعل البيت الأول كذا: وتممه بالبيت الثاني على حاله.وفيها في ذي الحجة، سافر السلطان الناصر أحمد إلى الكرك، وأخذ من ذخائر بيت المال بمصر ما لا يحصى، وصحب طشتمر والفخري مقيدين، فقتلهما بالكرك قتلة شنيعة، وبطول الشرح في وصف جراءة الفخري وإقدامه على الفواحش. حتى في رمضان، ومصادرته للناس، حتى أنه جهز من صادر أهل حلب، فأراح الله العالم منه، وحصن الناصر الكرك، واتخذها مقاماً له.
وفيها في رجب، اعتقل القرع بقلعة حلب معزولاً، ثم فك عنه الترسيم وسافر إلى جهة مصر.وفيها في رجب، توفي بطرابلس نائبها، ملك تمر الحجازي، ووليها مكانه طرغاي، وفيه تولى نيابة حماة يلبغا التجباوي.وفيها في شعبان، وصل القاضي بدر الدين إبراهيم بن الخشاب على قضاء الشافعية بحلب، فأحسن السيرة.وفيها توفي بحلب الحاج علي بن معتوق الدبيسري، وهو الذي عمر الجامع بطرف بانقوسا، ودفن بتربته بجانب الجامع.وفيها توفي بهادر التمرتاشي بالقاهرة، وكان بعد وفاة الملك الناصر، الأمراء الغالبين على الأمر.
|